فرط وقرط على شرط من دون خرط

فرط وقرط على شرط

الجمعة، 1 أبريل 2011

إسمعي يا مصر


بسم الله الرحمن الرحيم

أحييك يا مصر بتحية الإسلام ، وأحيي فيك الزعامة للعالم العربي ، الزعامة التي كانت عن جدارة واستحقاق ، لا عن احتكار واغتصاب ، وإنك تحلين اليوم في العالم العربي محل السمع واليصر ، ومحل العقل والفكر ، رضي به الناس أم لم يرضوا ، ولكن الواقع لا ينكر.

أحيي فيك يا مصرنفاق سوق العلم ، ورواج بضاعة الأدب ، وتقدير رجال العلم والفن ، فقد أنجبتهم واحتضنتهم ودافعت عنهم ، وحدبت عليهم ن فهم أبناؤك البررة وأنت الأم الحنون.

أحيي فيك الأزهر الشريف الذي كان ولا يزال المنهل المورود في الدين والعلم للعالم الإسلامي ، والذي لا يضارعه ولا يزاحمه في تقدم السن وطول العمر وامتداد الظل وكثرة الانتاج معهد أو جامعة على وجه الأرض.

أحيي فيك المكتبة العربية التي فاضت وامتدت كالنيل وأصدرت كتباً ومطبوعات عربية لو وضع بعضها فوق بعض لكانت مثل الأهرام أو أرفع.

أحيي فيك غيرتك على اللغة العربية ، وجهادك في إحيائها ونشرها ، ورفع شأنها وتوسيعها ، حتى أصبحت بجهود أدبائك وكتابك وبفضل الصحافة المصرية والحياة السياسية  ، وبفضل حركة التأليف والترجمة والنشر ، وبفضل المجمع اللغوي ، لغة راقية عصرية علمية سياسية فنية لا تقل في غزارة مادتها وقابليتها لتعليم العلوم العصرية والطبيعية والرياضية عن أي لغة من لغات الغرب.

أحيي فيك عدداً مشرفاً من الأدباء والكتاب ، فيهم الكاتب المبدع ، والمترسل القدير ، والأديب الفنان ، والباحث الناقد ، والعالم الضليع ، والمؤرخ الأمين ، والفيلسوف الحكيم ، والحدث اللبق ، والروائي المصور ، والمتهكم الاذع ، والمضحك المطرب، والمصلح المنتقد ، والشاعر المطبوع ، والسياسي المناقش ، والصحافي البارع ، إذا كتب أحدهم في موضوع ردد العالم العربي صداه وافتخر المتأدبون بتقلييد أسلوبه والنسج على منواله ، واحتجوا به كما يحتج بشعر القدماء.

أحيي فيك يا مصر هذا وغير هذا ، ولكن لي معك اليوم شأناً آخر ، إن لي معك كلاماً أرجو أن تلقي إليه سمعك ويشهد به قلبك فأنا ضيف قد نزل بك ، ومن حسن الوفادة وتمام الضيافة الاستماع الى كلام الضيف والاقبال عليه بالسمع والقلب.

إن مسؤوليتك يا مصر أوسع وأعظم من تأدية رسالة الأدب وخدمة لغة العرب ، وما تجودين به على الأقطار العربية الشقيقة برشحات الثقافة الأوربية وفتات المدنية الغربية ، إنك بين آسيا وأوروبا فأنت ملتقى الثقافتين ومجمع البحرين ، إنك وسط بين مهد الاسلام ومشرق نوره  ، وبين مولد الحضارة الغربية ومبعث العلوم العصرية ، فعليك مسؤولية القارتين ، وعندك رسالة الثقافتين.

فأما مسولية آسيا والأقطار العربية فلا تخرجين منها يا مصر حتى تكوني قنطرة تعبر عليها إلى البلاد العربية تجارب أوروبا وعلومها ونشاطها وكدحها في الحياة وجهادها للبقاء ، هنالك تقومين برسالتك ووظيفتك لهذه البلاد العزيزة ، التي ترتبطين بها برابطة دينية وروحية وثقافية وسياسية.

وأما مسؤولية أوروبا فلا تخرجين منها حتى تبلغي رسالة الجزيرة العربية - وهي الإسلام الذي احتضنته من زمان - إلى أوروبا وحل المشاكل التي أعييت كبار المفكرين وأتعبت عظماء المشرعين ، وبذلك تؤدين واجبك المقدس نحو هذه القارة الأوربية التي أستوردت منها شيئاً كثيراً من العلم والمصنوعات والمنتجات ، ونظمت عليها مدنيتك وحياتك تنظيماً جديداً ، وتحسنين إليها أكثر مما أحسنت إليك وتصدرين إليها أفضل مما صدرت إليك.

إنك يا مصر قد بنيت القناطر الخيرية فانتظم مالري ، وازدهرت الزراعة وأخصبت البلاد ، وأريد أن تبني قنطرة خيرية أخرى هي أكبر القناطر في العالم وأنفعها ، تصل بين بحرين لم يزالا منفصلين ، وبين حضارتين لم تزالا متنافستين ،  وبانفصالهما وتنافسهما شقي العصر الجديد ، فلو أنك وصلت بينهما وكنت قنطرة تتبادل بها القارتين خيراتهما ومحاسنهما ، وفرت على الانسانية جهوداً وأوقاتاً كثيرة وصنتها من الضياع ، كما أن قناطرك الخيرية وفرت على مصر مياهاً كثيرة ونظمت أمر الري.

لقد كان حفر قناة السويس أكبر حادث في التاريخ العصري غير مجرى التاريخ وأحدث انقلاباً في السياسةوالتجارة ، ولكن من يستطيع أن ينكر أن شقاء الأمم الشرقية كان أعظم وأعظم من سعادتها ، وأنها ام تجن من قناة السويس إلا عبودية وإستعماراً ، والعالم الآن في حاجة الى قناة أخرى ، قناة التعارف الصحيح والتبادل المتوازن ، وإليك وحدك يا مصر القيام بهذه المبرة العظيمة لمكانك الجغرافي واهميتك السياسية ةثروتك الثقافية ومركزك الروحي ، تعلمين أن دولة لا تزن ميزانيتها ، ولا تتحسن أحوالها الاقتصادية ، إلا إذا وجد توازن بين حركة التصدير والتوريد ، وكان تصديرها أكثر من توريدها ، ولكننا في الشرق نورد اكثر مما نصدر ، وكانت قناة السويس أكبر مطية من مطايا هذا التوريد ، فلا نريد قنطرة أو قناة تكون معبر البضائع الأجنبية من أفكار وآراء وفلسفات وأخلاق إلى أعماق الشرق وأحشائه بل نريد قناة تساوي بين التوريد والتصدير ، وتصدر أفضل ما عند الشرق الاسلامي من رسالة وعقيدة وخلق وعلم ، وتورد أحسن ما عند الغرب من منتجات ومصنوعات وتجارب واكتشافات ومرافق الحياة ، فكوني يا مصر تلك القناة الأمينة العادلة التي لا تسمح بالمرور إلا للصالح الفاضل,

إن لك يا مصر يدين ، فخذي من الغرب ما فاق فيه من علم وتجربة، فالحكمة ضالة المؤمن ، ومدي إليه يداً أخرى ، يد المساعدة والكرم ، وجودي عليه بما أنعم الله عليك من نعمة الإيمان وشرف الإسلام فذلك الذي لا يملكه الغرب و لا يستغني فيه عنك ، وقد انتهى به إفلاسه فيه إلى ما ترين من فوضى وانحلال فتصدقي عليه بهذا الإيمان ورسالة الروح ولا تنسي أبداً أن اليد العليا خير من اليد السفلى.

كوني يا مصر رسول الإسلام إلى الغرب ، واحملي إليه رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، تلك الرسالة التي حملها العرب إلى الأمة الرومية والأمة الفارسية فأنقذتهما من مخالب الموت وأفاضت عليهما ثوباً قشيباً من الحياة ولوناً جديداً من النشاط ، وليس الغرب أقل حاجة إلى هذه الرسالة من الأمة الرومية والفارسية إليها ، وقديماً اختار الملوك وأصحاب الرسالة السماوية رسلا من عشيرتهم والأقربين إليهم ، ولك من إبراهيم وإسماعيل ومحمد صلى الله عليه وسلم  رحم ماسة وقرابة خاصة ليست لقطر من الأقطار الاسلامية بعد الجزيرة العربية.

إن أوروبا قد شاخت ونضجت كالفاكهة التي أدركت وضعف الغصن عن حملها ، فاستعدي يامصر الاسلامية لتحلي محلها في الزعامة وقيادة الأمم ، وما ذلك بعزيز ولا بمستحيل ،  إذا تم استعدادك الروحي والخلقي والمادي ، وإذا كانت أوروبا قد احتفظت بالقيادة العالمية هذه المدة الطويلة وليست عندها رسالة عامة للانسانية ولا دعوة مخلصة لأمم العالم وعندها كل ما يضعف ثقة العالم بها من وطنية وعنصرية وتقديس للنسل الآري ، وإدلال باللون الأبيض ، ونزعة تجارية واستعمار ، فكيف لا يرضى العالم بقيادتك وعندك الرسالة التي تضمن سعادة العالم كله ،  ودين لا يفرق بيم الأوطان والعناصر والألوان ؟

إحرصي يا مصر على رجولة أبنائك وأخلاقهم ، وصوني شبابهم وشرفهم ودينهم وصحتهم من أن يعبث بها العابثون أو يتجر بها المتجرون ممن يعيشون على أثمان الأعراض والأخلاق ويحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لتروج بضاعتهم وتزدهر تجارتهم ، أولئك هم أصحاب الروايات الخليعة والصور العارية والأدب المكشوف ، فانك يا مصر في محل الزعامة والقيادة للشرق الأوسط ، وفي طريقك إلى الزعامة والقيادة للعالم الاسلامي ، ولا تاتي الزعامة والسيادة إلا بعد الاستقامة والثبات  في مزالق النسان ، والنجاح البارز في امتحان العفة وطهارة الأخلاق ، واذكري قصة يوسف التي مرت على أرضك و وقعت بين سمعك وبصرك كيف ثيت في الامتحان ،  وكيف حافظ على دينيه وعفته ،  فكانت نتيجة ذلك الثقة والاعتماد والسيادة والملك ، واقرئي إن شئت " و كذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشآء نصيب برحمتنا من نشآء ولانضيع أجر المحسنين "

بل و لا حياة ولا شرف إلا بالرجولة والأخلاق ، فكيف وانت في ميدان القتال وساحة الجهاد ، فلابد أن تحفظي وصية قائدك الكبير سيدنا عمرو بن العاص وتذكري ما قال لخلفائه في أرضك : " واعلموا أنكم في رباط إلى يوم القيامة لكثرة الأعداء حولكم وتشوف قلوبهم إليكم وإلى داركم "

فكافحي يا مصر الوباء الخلقي الذي يقضي على حيوية الأمة أشد مما تكافحين وباء الكوليرا الذي يقضي على حياة بعض الأفراد ، وطاردي كل من يحاول أن يزعزع العقيدة في شعبك ، ويزلزل الإيمان ويفسد الخلق أشد مما تطاردين من ينشر الوباء أو يسبب الأمراض أو ينقل إلى أرضك الميكروب ، فلم نسمع أن الامة العظيمة ماتت وبادت بسبب وباء أو مرض ، وأن اليونان اجتاحهم مرض من الأمراض ، ولكننا قرأنا في الناريخ وشهدت أنت أن هذه الأمم كانت كلها فريسة التفسخ الخلقي ، والأمراض الاجتماعية ، فاحذري يا مصر - صانك الله وحرسك - هذا المصير المؤلم.

إت العلم العربي قد أحلك يا مصر من نفسه محلاً رفيعاً و وضع ثقته فيك وفتح لك أذنيه وعينيه ، فاتقي الله يا مصر فيمن ائتمنك و وثق بك في نفسه وعقله ، ولا تصدري إليه من أدبك ومطبوعاتك ما يرزأه في إيمانه وأخلاقه وقوته المعنوية وروحه ، كما لا ترضين ولا ترضى كرامتك ومروءتك أن تصدري إلى زبائنك من الدول والبلاد الحبوب المسمومة والفواكه الموبوءة ، ولا تقبلين أن يصدرها إليك أحد ، وصدقيني يا مصر العزيزة ان هذه الروايات الخليعة والأدب الماجن أفسد وأضر للامة والحياة من الحبوب المسمومة والفواكه الموبوءة ، إنك زعيمة للعالم العربي فلا تغلبنك النزعة التجارية ولا تغرنك المنافع المؤقتة  ، فلا يكون زعيماً ولا يكون عظيماً من يؤثر العاجل على الآجل ، والمنفعة الفردية على المنفعة الاجتماعية والأثرة على الإيثار.

إنك يا مصر من أغنى لاد الله ، ولست أعني بالغنى خصب الأرض وكثرة الموارد ، وإنك لغنية فيها من غير شك ، ولكني أعني غناك في المواد الخامة ، وهي الشعب الذي توفرت فيه المواهب والقوى ، خصوصاً ما يسكن منه في  أريافك ، فهي المناجم التي لا تزال مدفونة ، والمعادن التي لم تستخرج بعد ، هذا الشعب قوي الإيمان ، قوي الشخصية ، قوي الجسم ، فو أنك أحسنت تعليمه وتربيته ، وأفدت من هذا الايمان و وضعته في محله  لكان حارسك الأمين وجندك القوي وثروتك العظيمة.

قد اختار الله لك يا مصر قارة من أوسع القارات وأكثرها مواد خامة ، هي القارة الأفريقية  ولا يزال جزء كبير منها على سذاجته وفطرته ،  ولا تزال فيها أمم على الجاهلية الوثني ن وعلى الجهالة والضلالة ن ولا تزال فيها امم كاللوح الصافي يكتب الانسان فيه ما يشاء ، وهذه الأجزاء من القارة ، وهذه الامم خير حقل لجهودك وتربيتك ن وخير أرض لزراعتك وغرسك ، فأرسلي إليها دعاتك المبشرين ورجالك المصلحين وعلماءك المرشدين وأبناءك المعلمين ، يبلغونهم الدين ويتلون عليهم آيات الله ويعلمونهم الكتاب والحكمة ، وبذلك تنقذين بإذن الله نفوساً كثيرة من النار ، وتخرجينه من الظلمات إلى النور ، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها وتكتسبين قلوباً نقية وأروحاً فتية وأجساماً قوية ، ويكون ذلك خيراً لك من هذه الأمم والدول الغربية التي تخطبين ودها وتحرصين على صداقتها ، وهي لا تدوم على حال بل تجري وتدور مع أغراضها المادية ومصالحها السياسية ،  فيوماً هي معك ويوماً مع أعدائك ، وإذا كانت معك لم تكن باخلاص وصدق ، وإنما هي المطامع والمصالح ، وما أضعف الصداقة التي تقوم على المطامع والأغراض !

وأخيراً أريد أن أقول في أذنك يا مصر إن لله في خلقه شؤوناً وإنه أعظم غيرة من كل غيور ، وإنه لا يعطي نعمة دينه إلا من يعظمها ويجلها ويقدرها حق قدرها ، فإذا رأى منك استغناءاً عن الدين وما ينبئ عن احتقار لشأنه ، واستصغار لأمره ، وزهداً في الاسلام ، وانرافاً عن خدمته ، وتقصيراً في أداء رسالنه ، وعتزازاً لمبدء غير الاسلام ، وتشرفاً بغير محمد صلى الله عليه الصلاة والسلام ، استغنى عنك - على مآثرك السابقة وثروتك الضخمة ومدينيتك الفخمة - " سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا " وجاء لخدمة لاسلام  وقيادة الامم الاسلامية ، بأمة لم تخطر منك على بال ، تعتز بالدين وحده وتتشرف برسالة الاسلام ، وتتشبع بحب محمد صلى الله عليه وسلم ، وتلتهب غيرة دينية وحماسة إسلامية وتجاهد في سبيل الله ولا تخاف لومة لائم ، وإن الله تعالى حذر العرب الأولين وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم : " فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين " ، ,قال للمسلمين العرب : " وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ".

" ولله جنود السموات والأرض " وفي كنانة الاسلام سهام لم يرها أحد ولا تخرج إلا في وقتها ، ومن يدري فلعل شمس الاسلام تطلع من المشرق ، وهذه أمم إسلامية فتية على سواحل المحيط الهندي وفي جزره تتحفز للوثوب وتتهيأ لقيادة العالم الاسلامي. فاحتفظي يا مصر العربية بمكانتك ومجدك ولا تأمني دورة الأيام و تأمني مكر الله : " فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون "   هذه تحيتي إليك يا مصر العزيزة فتقبليها ، وهذه آمالنا فيك فحققيها ، وكلمة مرة في الأخير فتحمليها ، وهذه معذرتي إليك فاقبليها ، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.

كُتب هذا المقال بمناسبة زيارة أبو الحسن على الحسني الندوي لمصر عام 1951م ونشر في مجلة الرسالة